فصل: (مسألة:لا تقام إلا في بناء)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: لا تجب على المريض]

ولا تجب الجمعة على المريض؛ لحديث جابر، ولأنه يشق عليه القصد إلى الجمعة، فلم تجب عليه.
ولا تجب الجمعة على الأعمى، إذا لم يكن له قائد؛ لأنه يشق عليه ذلك، وحكى الشاشي: أن القاضي حسينا قال: تجب عليه إذا كان يحسن المشي بالعصا، ولعله أراد: إذا اعتاد المشي إلى موضع الجمعة وحده، وإن كان للأعمى قائد... وجبت عليه الجمعة؛ لأنه مع القائد كالبصير.

.[فرع: أعذار الجمعة]

والأعذار التي ذكرناها: أنها أعذار في ترك الجماعة، هي أعذار في ترك الجمعة، فلا تجب الجمعة على خائف على نفسه أو ماله، ولا على من في طريقه مطر، ولا على من له مريض يخاف ضياعه؛ لما ذكرناه في الجماعة، ولا تجب على من له قريب أو ذو ود يخاف موته؛ لما روي: (أنه استصرخ على سعيد بن زيد وابن عمر يسعى إلى الجمعة فتركها) لأنه ابن عمه.
ومعنى قوله: (استصرخ)، أي: استغيث عليه.
فإن حضر المريض الجامع، أو الأعمى الذي لا قائد له، أو من في طريقه مطر... وجبت عليهم الجمعة؛ لأن المشقة قد زالت بالحضور.
فإن أحرم المسافر أو المريض بالجمعة، فأراد الانصراف عنها... لم يكن لهما ذلك: لأنها قد تعينت عليهما بالدخول.
وإن أحرمت المرأة أو العبد بالجمعة، فأراد الانصراف منها إلى الظهر... فهل يجوز لهما ذلك؟ فيه وجهان، حكاهما الصيمري:
أحدهما: يجوز لهما ذلك؛ لأنهما ليسا من أهل فرضها.
والثاني: لا يجوز لهما ذلك؛ لأنها قد تعينت عليهما بالدخول.

.[مسألة:وجوب الجمعة على أهل المدن]

تجب الجمعة على أهل المصر، إذا وجدت فيهم الشرائط التي ذكرناها، سواء سمعوا النداء، أو لم يسمعوا، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاطب أهل المدينة بوجوبها، ولم يفرق بين أن سمعوا النداء، أو لم يسمعوا؛ ولأن المصر الواحد كالدار الواحدة، بدليل: أن من سافر منه لا يقصر حتى يفارق جميعه.
وأما من كان من خارج المصر: فهم على ثلاثة أضرب:
الأول: قوم تجب عليهم الجمعة بأنفسهم.
والثاني: قوم لا تجب عليهم بأنفسهم، ولكن تجب عليهم بغيرهم.
والثالث: قوم لا تجب عليهم لا بأنفسهم ولا بغيرهم.
فأما الذين تجب عليهم بأنفسهم: فهم أهل القرية إذا كانوا أربعين رجلًا على الشروط التي ذكرناها، فتلزمهم إقامتها في موضعهم، سواء سمعوا نداء المصر، أو لم يسمعوا، فإن أقاموها في موضعهم لهذا... فقد أحسنوا، وإن أتوا المصر، وصلوا الجمعة فيه أجزأتهم، وقد أساءوا؛ لأن إقامة الجمعة في موضعين أفضل من إقامتها في موضع واحد، هذا هو المنصوص.
وقال الصيدلاني: لا يكونون مسيئين بذلك؛ لأن من الفقهاء من يقول: لا تنعقد الجمعة في القرية، وإنما تنعقد في البلد، فإذا دخلوا البلد، وصلوا فيه... فقد خرجوا من الخلاف.
وأما الذين لا تجب عليهم الجمعة بأنفسهم، وتجب عليهم بغيرهم: فهم الذين ينقصون عن أربعين، ويسكنون في موضع يسمعون النداء فيه من البلد الذي تقام فيه الجمعة.
وأما الذين لا تجب عليهم الجمعة لا بأنفسهم ولا بغيرهم: فهم الذين ينقصون عن الأربعين، ويسكنون في موضع لا يسمعون فيه النداء من البلد الذي تجب فيه الجمعة.
هذا مذهبنا، وبه قال عبد الله بن عمرو بن العاص، وابن المسيب، وأحمد، وأبو ثور.
وذهبت طائفة إلى: أن الجمعة تجب على من يمكنه إتيان الجمعة، ويأوي بالليل إلى منزله. ذهب إليه ابن عمر، وأنس، وأبو هريرة.
وقال عطاء: تجب الجمعة على من كان من المصر على عشرة أميال.
وقال الزهري: تجب على من كان من المصر على ستة أميال.
وقال ربيعة: على أربعة أميال.
وقال مالك والليث: (على ثلاثة أميال).
وقال أبو حنيفة: (لا تجب الجمعة على من كان خارج المصر، ولو كان بينه وبين المصر خطوة).
وقال محمد: قلت لأبي حنيفة: تجب الجمعة على أهل ريادة بأهل الكوفة؟ فقال: (لا). وبين ريادة وبين الكوفة نهر.
وعند أبي حنيفة: (أن الجمعة لا تجب على أهل القرى، وإن كان العدد فيهم موجودًا، وإنما تجب على أهل المصر).
وحد المصر عنده: أن يكون هناك سلطان قاهر يستوفي الحقوق، ويقيم الحدود، أو خليفة من قبله، ويكون فيها سوق قائم، وجامع، ومنبر، ونهر جار.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9].
فأوجب السعي إلى الجمعة على المؤمنين، ولم يفرق بين أهل المصر، وأهل القرى، وأهل السواد، وظاهر أمره يقتضي وجوب السعي على من كان خارج المصر، سواء كان قريبًا أو بعيدًا، إلا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قيده بمن سمع النداء، فروى عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجمعة على من سمع النداء»، وأراد به من كان خارج المصر؛ لأن أهل المصر تجب عليهم الجمعة، سواء سمعوا النداء، أو لم يسمعوا، بالإجماع.
وروي عن ابن عباس: أنه قال: (أول جمعة بعد جمعة المدينة جمعت في قرية بالبحرين، يقال لها: جواثا).

.[فرع: صفة نداء الجمعة]

إذا ثبت: أن الجمعة تجب على من كان خارج المصر، إذا سمعوا النداء من المصر:
قال الشافعي: (فصفة النداء الذي تجب به الجمعة على من سمعه: أن يكون المؤذن صيتًا، وتكون الرياح ساكنة، والأصوات هادئة، وكان من ليس بأصم مستمعًا - يعني: مصغيًا - غير لاه، ولا ساه)، ومن أي موضع يُعتبر سماعه من المصر؟ فيه وجهان، حكاهما في "الإبانة" [ق\95]:
أحدهما: وهو الأصح -: أن الاعتبار أن يقف المؤذن في طرف البلدة إلى جانب القرية الخارجة عن البلد.
والثاني: يعتبر من وسط البلد. ولا يعتبر أن يعلو المؤذن على سور أو منارة؛ ليعلوا أعلى البناء؛ لأن الارتفاع ليس له حد، قال القاضي أبو الطيب: وسمعت شيوخنا يقولون: إلا بطبرستان؛ فإنها مبنية بين غياض وأشجار تمنع من بلوغ الصوت، فيعتبر أن يصعد على شيء يعلو على الغياض والأشجار.
فإن كان هناك قرية على جبل يسمعون النداء من البلد الذي تقام فيه الجمعة لعلوهم، ولو كانوا في مستوٍ من الأرض... لم يسمعوا، أو كانت هناك قرية في وهدة من الأرض، لا يسمعون النداء فيها من البلد لانخفاض قريتهم، ولو كانوا في مستوٍ من الأرض.. لسمعوا.. ففيه وجهان:
الأول: قال القاضي أبو الطيب: لا تجب على من سمع؛ لعلو قريته، وتجب على من لم يسمع؛ لانخفاض قريته.
والثاني: قال الشيخ أبو حامد: تجب الجمعة على من سمع لعلوه، ولا تجب على من لم يسمع لانخفاض قريته؛ لأنا نلحق النادر بالغالب العام.
قال ابن الصباغ: والذي قاله القاضي أبو الطيب أشبه بكلام الشافعي؛ لأنه اعتبر أن يكون المؤذن صيتًا، والأصوات هادئة، والرياح ساكنة، فلم يعتبر حصول السماع مع عارض، وهو شدة الرياح، كذا ينبغي ألا يعتبر العلو والانخفاض، وإنما يعتبر الاستواء.

.[مسألة:اتفاق العيد والجمعة]

وإن اتفق العيد يوم الجمعة... وجبت الجمعة على أهل المصر، ولا تسقط عنهم بفعل العيد، وبه قال أكثر الفقهاء.
وقال عطاء: يصلي العيد، ويترك الجمعة، ولا صلاة في هذا اليوم إلى العصر.
وقال أحمد: (يسقط عنه حضور الجمعة).
وحكي عن عبد الله بن الزبير: أنه صلى العيد، وترك الجمعة، فعابه بعض بني أمية، فقال ابن الزبير: (هكذا كان يصنع عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -)، فبلغ ابن عباس فعل ابن الزبير، وكان غائبًا في اليمن، فقال: (أصاب السنة).
وروي: أن عليًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خطب في العيد، فقال: (أيها الناس، قد اجتمع عيدان في يوم، فمن شهد العيد... فقد قضى الجمعة إن شاء الله).
ودليلنا: ما ذكرناه من الظواهر في وجوب الجمعة، ولم يفرق فيها بين يوم العيد وغيره.
وأما أهل السواد - وهم من كان خارج المصر الذين يجب عليهم حضور الجمعة بسماع النداء من المصر إذا حضروا العيد، وراحوا -: فلا يجب عليهم حضور الجمعة في يومهم ذلك.
ومن أصحابنا من قال: لا يسقط عنهم فرض الجمعة؛ لأن من لزمه فرض الجمعة في غير يوم العيد... لزمه في يوم العيد، كأهل المصر.
والمنصوص هو الأول، والدليل عليه: ما روي عن أبي هريرة وابن عمر: أنهما قالا: «اجتمع عيدان على رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يوم واحد، فصلى العيد في أول النهار، وقال: أيها الناس، إن هذا يوم اجتمع فيه عيدان لكم، فمن أحب أن يشهد معنا الجمعة... فليفعل، ومن أحب أن ينصرف فليفعل».
وأراد به أهل العالية والسوادات، بدليل ما روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه قال في خطبته: (أيها الناس، قد اجتمع عيدان في يومكم هذا، فمن أراد من أهل العالية أن يصلي معنا الجمعة... فليفعل، ومن أراد أن ينصرف فليفعل).
ولأنهم إذا قعدوا في البلد بعد صلاة العيد إلى صلاة الجمعة... فاتتهم لذة العيد، وإن راحوا بعد صلاة العيد إلى منازلهم، ثم رجعوا لصلاة الجمعة كان عليهم مشقة، والجمعة تسقط بالمشقة، بخلاف أهل المصر، فإن ذلك لا يوجد في حقهم.

.[مسألة:يسقط الظهر بالجمعة]

ومن لا جمعة عليه، كالمرأة والعبد والمسافر، إذا حضروا الجمعة، وصلوها... سقط عنهم فرض الظهر؛ لأن الجمعة إنما سقطت عنهم لعذر، فإذا حملوا على أنفسهم، وصلوا الجمعة أجزأتهم، كالمريض إذا صلى من قيام.
وإن صلوا الظهر... أجزأتهم؛ لأنها فرضهم، فإن صلوا الجمعة بعد ذلك سقط عنهم الفرض بالظهر، وكانت الجمعة نافلة.
وحكى أبو إسحاق المروزي: أن الشافعي قال في القديم: (يحتسب الله له بأيتهما شاء). والأول أصح.
وقال أبو حنيفة: (يبطل الظهر بالسعي إلى الجمعة).
وقال أبو يوسف ومحمد: يبطل الظهر بالإحرام بالجمعة.
ودليلنا: أن صلاة الظهر قد صحت، فلا تبطل بالسعي ولا بالإحرام بالجمعة، كالمنفرد إذا صلى وحده، ثم صلى تلك الصلاة في جماعة.
والمستحب لأهل الأعذار: ألا يصلوا الظهر حتى يفوت وقت الجمعة، وفواتها برفع الإمام رأسه من الركوع في الثانية، وإنما استحببنا ذلك لمعنيين:
أحدهما: أن الجمعة فرض الجماعة، والظهر فرض الخصوص، فاستحب تقديم فرض الجماعة.
والمعنى الثاني: أن فيهم من قد يزول عذره، فيكون فرضه الجمعة، وإن صلى المعذور الظهر، ثم زال عذره قبل صلاة الإمام الجمعة... لم تجب عليه الجمعة.
وقال ابن حداد: إذا صلى الصبي الظهر، ثم بلغ قبل صلاة الإمام الجمعة... وجبت عليه صلاة الجمعة؛ لأن ما صلى الصبي قبل البلوغ نفل، بخلاف غيره.
والصحيح هو الأول؛ لأن الشافعي قد نص على: (أن الصبي إذا صلى في غير يوم الجمعة الصلاة في أول الوقت، ثم بلغ في آخره: أنه لا تجب عليه إعادتها). فكذلك في يوم الجمعة.
وإن صلى الخنثى الظهر في أول الوقت، ثم بان أنه رجل قبل صلاة الإمام الجمعة... لزمه أن يصلي الجمعة.
والفرق بينه وبين غيره من المعذورين: إذا تبين أنه كان رجلًا وقت الصلاة، بخلاف غيره من المعذورين.
وتستحب الجماعة للمعذورين في الظهر يوم الجمعة.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يكره لهم الجماعة).
دليلنا: الأخبار التي ذكرناها في الجماعة، ولم يفرق بين صلاة الظهر يوم الجمعة وبين غيرها.
قال الشافعي: (وأحب لهم إخفاء جماعتهم، لئلا يتهموا بالرغبة عن صلاة الإمام).
قال أصحابنا: هذا إذا كان عذرهم خفيا، فأما إذا كان جليًّا: لم يستحب لهم إخفاء الجماعة؛ لأن التهمة منتفية عنهم.
وأما من كان من أهل فرض الجمعة: إذا صلى الظهر قبل فوات الجمعة... ففيه قولان: الأول: قال في القديم: (يصح ظهره، ويجب عليه السعي إلى الجمعة، فإذا صلى الجمعة احتسب الله تعالى بأيتهما شاء، فإن فاتته الجمعة... أجزأته الظهر التي صلاها).
والثاني: قال في الجديد: (لا يصح ظهره، وتلزمه الجمعة، فإن لم يصلها حتى فاتت... وجب عليه إعادة الظهر). وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق، وزفر.
وقال أبو حنيفة: (يصح ظهره قبل فوات الجمعة، ويلزمه السعي إلى الجمعة، فإذا سعى إليها... بطل الظهر، وإن لم يسع أجزأته الظهر).
وقال أبو يوسف ومحمد: يصح الظهر، ويبطل بالإحرام بالجمعة.
وأصل القولين عندنا: ما المخاطب به يوم الجمعة؟ وفيه قولان.
الأول: قال في القديم: (المخاطب به هو الظهر، ولكن كلفوا إسقاطها بالجمعة). ووجهه: أنه لا خلاف أن الجمعة إذا فاتت... فإنه يقضي الظهر أربعًا، فثبت أنها هي الواجبة، إذ لو كانت الجمعة هي الواجبة لوجب قضاؤها.
والثاني: قال في الجديد: (إن المخاطب به هو الجمعة دون الظهر). وهو الصحيح، ووجهه: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، فأوجب السعي إلى الجمعة، فعلم: أن المخاطب به هو الجمعة دون الظهر، ولما ذكرناه من حديث جابر؛ ولأنه مأمور بفعل الجمعة، معاقب على تركها، منهي عن فعل الظهر، فوجب أن يكون فرضه ما أمر بفعله، دون ما نهي عن فعله، كسائر الأوقات.
وأما القضاء: فقد قال أبو إسحاق: إذا فاتته الجمعة... فإنه يقضيها، ولكن يقضي أربعًا؛ لأن الخطبتين أقيمتا مقام ركعتين، فلما فاتت الجمعة قضى أربعا. هذا قول عامة أصحابنا. وحكي عن أبي إسحاق المروزي: أنه قال: إذا اتفق أهل بلد على ترك الجمعة، وصلوا الظهر... أثموا بترك الجمعة، وتجزئهم الظهر؛ لأن كل واحد منهم لا تنعقد به الجمعة. والصحيح: أنها لا تجزئهم على قوله الجديد؛ لما ذكرناه فيه.

.[مسألة:السفر يوم الجمعة]

ومن وجبت عليه صلاة الجمعة، وأراد السفر، فإن كان يخاف فوت السفر؛ لذهاب القافلة ولا يمكنه المشي وحده... جاز له السفر، وترك الجمعة، سواء كان قبل الزوال أو بعده؛ لأن عليه مشقة في ذلك، والجمعة تسقط بالمشقة.
وإن كان لا يخاف فوت السفر، فإن أراد السفر بعد الزوال إلى بلد لا تقام فيه الجمعة... لم يجز.
وقال أبو حنيفة: (يجوز).
وقال أحمد: (إن كان إلى سفر الجهاد... جاز).
دليلنا: أن الصلاة قد وجبت عليه، فلا يجوز تفويتها بالسفر، كالتجارة.
وإن أراد السفر بعد طلوع الفجر الثاني، وقبل الزوال... ففيه قولان:
أحدهما: يجوز، وبه قال عمر، والزبير، وأبو عبيدة بن الجراح - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو قول مالك، وأبي حنيفة، وأصحابه.
ووجهه: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهز جيش مؤتة، وكان فيهم عبد الله بن رواحة، فرآه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة، فقال: ما الذي خلفك؟. فقال: الجمعة، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لروحة في سبيل الله، أو غدوة في سبيل الله، خير من الدنيا وما فيها».
والثاني: لا يجوز له السفر، وهو الأصح؛ لأن الجمعة واجبة، والتسبب إليها وهو السعي واجب، بدليل: أن الرجل إذا كان في طرف المصر، بحيث لا يمكنه الوصول إلى الجامع إلا بالسعي قبل الزوال... لزمه ذلك، وإذا كان التسبب إليها واجبًا، كوجوب الجمعة لم يجز له أن يسافر بعد وجوب السبب، كما لا يجوز له بعد وجوب الجمعة.
وأما الخبر: فيحتمل أن يكون أمره بالخروج قبل طلوع الفجر.

.[مسألة:البيع وقت الجمعة]

وأما البيع يوم الجمعة: فينظر فيه:
فإن كان قبل الزوال... لم يكره، وإن زالت الشمس، ولم يظهر الإمام على المنبر كره، ولا يحرم.
وقال الضحاك، وربيعة، وأحمد: (يحرم).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9].
فثبت: أن النهي عن البيع يتعلق بحال النداء.
وإن ظهر الإمام على المنبر، وأذن المؤذن... حرم البيع؛ للآية.
إذا ثبت هذا: فإن التحريم إنما يختص بأهل فرض الجمعة.
فأما إذا تبايع اثنان ليسا من أهل فرض الجمعة، كالمسافرين والعبدين والمرأتين... لم يحرم عليهما.
وقال مالك: (يحرم عليهما).
دليلنا: أن الله تعالى أمر بالسعي إلى الجمعة، ونهى عن البيع؛ لأجلها، فلما كان السعي إلى الجمعة لا يجب على هؤلاء... ثبت أن النهي عن البيع لا يتوجه في حقهم.
فإن تبايع اثنان - بعد ظهور الإمام على المنبر، والأذان - أحدهما من أهل فرض الجمعة، والآخر ليس من أهل فرضها:
قال الشافعي: (أثما جميعًا) لأن من كان من أهل فرض الجمعة... تناولته الآية، والآخر أعانه على المعصية، فكان عاصيًا بذلك.
وكان موضع يحرم فيه البيع إذا وقع البيع فيه... صح البيع.
وقال مالك، وأحمد، وداود: (لا يصح).
دليلنا: أن النهي لأجل الصلاة، وذلك لا يختص بالبيع، فلم يوجب فساده، كمن ترك الصلاة في وقتها، واشتغل عنها بالبيع، وكذلك: لو ذبح بسكين مغصوبة... فإن الذكاة تصح، ولو ذبح بظفر أو عظم لم تصح الذكاة؛ لاختصاص النهي بمعنى في المذبوح به.

.[مسألة:لا تقام إلا في بناء]

ولا تصح الجمعة إلا في أبنية يستوطنها من تنعقد بهم الجمعة؛ لأنها لم تقم في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا في أيام الخلفاء، إلا في أبنية.
قال الشافعي: (وسواء كانت أبنيتهم من حجارة، أو طين، أو خشب، أو شجر، أو جريد، أو سعف).
قال ابن الصباغ: وظاهر هذا أن أهل الخيام لا يجمعون؛ لأنه شرط البناء.
وقال في "البويطي": (ومن كان في بادية يبلغ عددهم أربعين رجلًا حرًا بالغًا، وكانت مظالهم بعضها إلى جنب بعض، وكانت وطنهم في الشتاء والصيف، لا يظعنون عنها إن قحطوا، ولا يرغبون عنها بخصب غيرها... وجبت عليهم الجمعة).
فالمسألة على قولين:
أحدهما: لا يجب على أهل الخيام؛ لعدم البناء؛ لأن الخيام بناء المستوفزين، لا بناء المستوطنين.
والثاني: تجب عليهم الجمعة؛ لأن ذلك موضع الاستيطان والمقام، فأشبه البناء.
إذا ثبت هذا: فإن الشافعي قال: (من شرط القرية أن تكون مجتمعة المنازل).
قال ابن الصباغ: فإن كانت متفرقة... نظرت:
فإن كان بعضها بائنًا من بعض بحيث يقصر إذا أراد أن يسافر من بعضها، وإن لم يفارق الباقي... فهذه متفرقة لا تجب عليهم الجمعة، وهذا ثبت من قوله: إن الأزقة والسكك بين الدور لا تكون فاصلة بينها؛ لأن أصحابنا ذكروا: أنه لا يجوز القصر لمن يسافر من بغداد، حتى يفارق نهر بغداد، وكذلك الرحبة تكون في القرية، فإن انهدمت القرية، وأقام أهلها فيها يصلحونها فإنهم يصلون الجمعة فيها، سواء كانوا في مظال، أو غير مظال؛ لأنهم في موضع استيطانهم.
وإن خرج أهل البلد إلى خارج البلد، وأقاموا فيه الجمعة... لم تصح.
وقال أبو حنيفة: (تصح خارج المصر قريبًا منه، نحو الموضع الذي يصلى فيه العيد).
وقال أبو ثور: (الجمعة كسائر الصلوات، إلا أن فيها خطبة، فحيثما أقيمت... جاز). واحتج: أن عمر كتب إلى أبي هريرة: (أن جمعوا حيث كنتم).
ودليلنا على أبي حنيفة: أنه موضع يجوز أن يقصر فيه المسافر من أهل البلد... فلم تجز إقامة الجمعة فيه، كالبعيد.
وعلى قول أبي ثور: أن قبائل العرب كانت حول المدينة، ولم ينقل: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرهم بإقامة الجمعة، ولا أقاموها، وأما حديث عمر: فمحمول على أنه أراد حيث كنتم، من بلد، أو قرية.

.[مسألة:العدد للجمعة]

العدد شرط في الجمعة، ولا خلاف أن الجمعة لا تنعقد بواحد.
واختلف أهل العلم في أقل العدد الذي تنعقد به الجمعة.
فذهب الشافعي إلى: (أنها تنعقد بأربعين رجلًا، ولا تنعقد بأقل من ذلك)، وهل يكون الإمام منهم، أو يشترط أن يكون زائدًا عليهم؟ فيه وجهان:
المشهور: أنه منهم، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود.
وقال ربيعة: تنعقد باثني عشر رجلًا.
وقال عكرمة: تنعقد بتسعةٍ.
وقال أبو حنيفة: (تنعقد بأربعة: إمام، وثلاثة مأمومين).
وذهب الثوري، والأوزاعي، وأبو يوسف، وأبو ثور إلى: (أنها تنعقد بثلاثة: إمام ومأمومَين). وحكى صاحب " التلخيص ". وصاحب "الفروع": أن ذلك قول للشافعي في القديم.
فمن أصحابنا من سلم له هذا النقل، وقال: الثلاثة جمع مطلق، فيكون على قولين.
وذهب عامة أصحابنا: إلى أن هذا لا يعرف للشافعي في قديم ولا جديد، ولعل ناقل هذا القول أخذه من أحد الأقوال في الانفضاض.
وقال الحسن بن صالح: تنعقد الجمعة بإمام ومأموم.
وقال مالك: (لا حد في ذلك، وإنما يعتبر عدد تتقرى بهم قرية، ويمكنهم المقام فيها، والبيع والشراء، فإذا كانت قرية، وفيها سوق ومسجد... انعقدت بهم الجمعة).
دليلنا: ما روى عبد الرحمن بن كعب بن مالك، قال: (كنت قائد أبي بعد ما كف بصره، وكان إذا سمع نداء الجمعة، ترحم على أسعد بن زرارة، فقلت له: إنك تترحم عليه عند نداء الجمعة؟ قال: نعم؛ لأنه أول من جمع بنا في بني بياضة، قلت: كم كنتم؟ قال: أربعين رجلا).
ووجه الدلالة منه: أن الناس قد كانوا يسلمون في المدينة الثلاثة والأربعة والعشرة، ولم يقيموا الجمعة حتى تم عددهم أربعين، فدل على أنه لا تجوز إقامتها فيما دون ذلك.
وروي عن جابر بن عبد الله: أنه قال: «مضت السنة: أن في كل أربعين فما فوقها جمعة وأضحى وفطرًا». وقول الصحابي: (مضت السنة) بمنزلة الرواية عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولأن الأربعة والثلاثة والتسعة والاثني عشر لا تُبنى لهم الأوطان غالبًا، فوجب ألا تنعقد بهم الجمعة، كالاثنين.